• نبذة عن حياة الإمام

  •  

    نبذة عن حياة الإمام السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (رضوان الله تعالى عليه)

     

    لم تتعرض المرجعية الدينية في تاريخها وحوزتها العلمية منذ تحولها من بغداد الى النجف الأشرف عام ٤٤٩ للهجرة (١٠٥٧م)، على يد شيخ الطائفة الإمام الطوسي (قده)، الى ظرف قاهر مشابه، كالذي مرت به خلال مرجعية الإمام السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قده). فلقد تزامنت مرجعية الإمام السيد الخوئي مع تسلم البعث  البائد الحكم في العراق. لقد جعل هذا النظام من الشيعة والمؤسسات الشيعية هدفاً لطغيانه وإرهابه، خصوصاً بعد نجاح  الثورة الاسلامية في ايران، والتي اعتبرها النظام البعثي خطراً مباشراً عليه.

     

    لذلك، وفي ظل تلك الظروف الصعبة بدا أن مهمة المرجع الأعلى الإمام الخوئي، تكاد تنحصر في المحافظة على دور الحوزة واستقلالها، لمتابعة مهامها العلمية والفقهية، واستمرار الدور التاريخي لمدينة النجف الأشرف، التي تضم مرقد أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (ع) في المقابل حاولت السلطة العراقية وبمختلف الطرق جذب المرجعية الى جانبها في مواقفها السياسية الظالمة، خصوصاً في حروبها الظالمة تجاه جيران العراق، كايران والكويت. وكانت المحاولة الاولى في هذا المجال، مطالبة السلطات العراقية الإمام الخوئي بإصدار فتوى ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية. وعندما رفض الإمام الخوئي ذلك، كشرت السلطات العراقية عن أنيابها صراحة وكان أول ردودها الاجرامية الغاضبة، الاعتداء على منزل نجله الاكبر المغفور له السيد جمال الدين في محاولة لقتله عام ١٩٧٩م،  حيث اضطر على اثرها الى مغادرة العراق الى سوريا حتى توفي بعدها في ايران عام ١٩٨٤م.

     

    تتالت بعد ذلك ممارسات النظام العراقي، فقامت السلطات باعتقال مجموعات كبيرة من رجال الدين وتلامذة الإمام في الحوزة العلمية واعدمت الكثيرين منهم، وفي مقدمتهم تلميذ الإمام وابنه البار الشهيد السيد محمد باقر الصدر في نيسان ١٩٨٠م. وفي العام ذاته قامت السلطات بتفجير سيارة الإمام الخاصة وهو في طريقه الى جامع الخضراء لاداء صلاة الظهر، وقد نجا الإمام من تلك الحادثة بأعجوبة بالغة. بعد ذلك قامت السلطات العراقية في عام ١٩٨٢م باعدام معاون الإمام الخاص آية الله السيد محمد تقي الجلالي. كذلك أقدمت في العام ١٩٨٥م على اغتيال صهر الإمام سماحة آية الله السيد نصر الله المستنبط، بواسطة زرقه بابرة سامة، كما اعتقل نجل الإمام السيد ابراهيم، وصهر الإمام السيد محمود الميلاني، وأكثر من مائة من افراد اسرته ومعاونيه من العلماء الافاضل، وتم اعدام البعض منهم، فيما بقي مصير الاخرين مجهولا حتى سقوط النظام، اذ لم يعرف مصيرهم ولم يتم العثور على رفاتهم أو قبورهم. اضافة الى  ذلك اعتقلت السلطات العراقية عددا كبيرا من السادة والعلماء، منهم آية الله الشيخ محمد تقي الجواهري، وآية الله الشيخ علي اكبر هاشميان، وآية الله الشيخ احمد الانصاري، وعددا كبيرا من السادة آل الحكيم وآل بحر العلوم و آل الخلخالي وغيرهم من الأُسر العلمية والأفاضل من أساتذة وطلبة الحوزة العلمية، وقامت باعدامهم وتصفيتهم جسديا.

     

    وكان آخر الأعمال الاجرامية بحق الإمام بعد وفاته، غلق أبواب مسجده "جامع الخضراء" ومقبرته، أمام المصلين والزائرين، واغتيال نجله العلامة الشهيد السيد محمد تقي الخوئي، الأمين العام الاول لمؤسسة الإمام الخوئي الخيرية بحادث سير مدبر على طريق كربلاء ـ النجف في ليلة الجمعة ٢١ صفر ١٤١٥هـ المصادف ٢٢/٧/١٩٩٤م.

     

    الخوئي: السيرة العلمية

    ولد الإمام الخوئي في ليلة النصف من شهر رجب سنة ١٣١٧هـ الموافق ١٩/١١/١٨٩٩م، في مدينة خوي من اقليم آذربيجان، وقد التحق بوالده العلامة المغفور له آية الله السيد علي اكبر الموسوي الخوئي الذي كان قد هاجر قبله الى النجف الأشرف، وحيث كانت المعاهد العلمية في النجف الأشرف هي الجامعة الدينية الكبرى التي تغذي العالم الاسلامي كله وترفده بالآلاف من رواد العلم والفضيلة على المذهب الإمامي، فقد انضم سماحته وهو ابن الثالثة عشرة الى تلك المعاهد، وبدأ بدراسة علوم العربية والمنطق والاصول والفقه والتفسير والحديث.

     

    درس الإمام الخوئي (قده) على يد مجموعة من أكابر علماء الفقه والاصول، ومراجع الدين العظام في بحوث الخارج، ومن أشهر أساتذته البارزين كل من آية الله الشيخ فتح الله المعروف بشيخ الشريعة (المتوفي سنة ١٣٣٩هـ)، وآية الله الشيخ مهدي المازندراني (المتوفى سنة ١٣٢٤هـ)، وآية الله الشيخ ضياء الدين العراقي (١٢٧٨ ـ ١٣١٦هـ)، آية الله الشيخ محمد حسين الغروي (١٢٦٩ ـ ١٣١٦هـ)، آية الله الشيخ محمد حسين النائيني (١٢٧٣ ـ ١٣٥٥هـ) والذي كان آخر أساتذته.

     

    كما حضر (قده)، ولفترات محددة عند كل من آية الله السيد حسين البادكوبه اي (١٢٩٣ ـ ١٣٥٨هـ) الذي درس على يديه الحكمة والفلسفة، وآية الله الشيخ محمد جواد البلاغي (١٢٨٢ ـ ١٣٥٢هـ) الذي تلقى على يديه دروس علم الكلام والتفسير. وأخيرا آية الله السيد ميرزا علي آقا القاضي (١٢٨٥ ـ ١٣٦٦هـ)، في الاخلاق والسير والسلوك والعرفان.

     

    وقد نال درجة الاجتهاد في فترة مبكرة من عمره الشريف، وشغل منبر الدرس لفترة تمتد الى أكثر من سبعين عاماً، ولذا لقب بـ "أستاذ العلماء والمجتهدين". وله إجازة في الحديث يرويها عن شيـخه النائيني عن طريق خاتمة المحدثين النوري، المذكور في آخر كتاب "مستدرك الوسائل" لكتب الإمامية، وأهمها الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار، ووسائل الشيعة، وبحار الانوار، والوافي. كما وله إجازة بالرواية عن طرق العامة، عن العلامة الشهير السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (قده) (المتوفى سنة ١٣٧٧هـ).

     

    مؤلفاته

    يعد الإمام الخوئي من العلماء غزيري الانتاج. فقد ألف عشرات الكتب في شتى الحقول العلمية المختلفة نذكر المطبوع منها: أجود التقريرات في اصول الفقه، والبيان في علم التفسير، ونفحات الاعجاز في علوم القرآن، ومعجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة في علم الرجال في 24 مجلداً، ومنهاج الصالحين في بيان أحكام الفقه، في مجلدين وقد طبع ٢٨ مرة، ومناسك الحج في الفقه، ورسالة في اللباس المشكوك في الفقه، وتوضيح المسائل في بيان أحكام الفقه، وهي الرسالة العملية لمقلديه، وقد طبع أكثر من ثلاثين مرة وبلغات عدة، والمسائل المنتخبة في بيان أحكام الفقه، وهي  الرسالة العملية لمقلديه باللغة العربية، وقد  طبع أكثر من عشرين مرة، وتكملة منهاج الصالحين في بيان أحكام الفقه، في القضاء والشهادات والحدود والديات والقصاص، ومباني تكملة المنهاج في أسانيد الأحكام الفقهية، في القضاء والشهادات والحدود والديات والقصاص، وتعليقة العروة الوثقى لبيان آرائه الفقهية على كتاب "العروة الوثقى" لفقيه الطائفة المغفور له آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي (قده).  كما ولا يزال البعض الآخر من مؤلفاته مخطوطاً.

     

    الخوئي: منهاجه العلمي

    تدرج الإمام الخوئي في نبوغه طالباً للعلم، فأستاذاً، ثم مجتهداً ومحققاً يعدّ المجتهدين، فما أن التحق في عنفوان شبابه بدروس الخارج وتقرير بحوث أساتذته على زملائه، سرعان ما عقب شيوخه في أروقة العلم، بالتصدي لتدريس بحث الخارج، فانهالت عليه هجرة طالبي العلم من كل مكان، وقلدته المرجعية العليا جميع مسؤولياتها وشؤونها،حتى أصبح زعيمها دون منازع، ومرجعاً أعلى للمسلمين الشيعة، يقلده ملايين المؤمنين من أتباع مذهب الإمامية في مختلف بقاع العالم، وطبعت رسائله العملية لبيان الاحكام الشرعية لمقلديه وبعدة لغات، وتلك بفضل نبوغه وتضلعه في مختلف العلوم الاسلامية، وبلوغه الغاية من التقوى، وألمعيته في إدارة الحوزات، واهتمامه البالغ  برفع مستوى العلماء، علمياً ومعيشيا، وفي رعايته للمسلمين عموما. فكان (قده) منذ أيامه الاولى يُعدّ بحق، زعيمها الواعد، حتى أصبح رمزا بارزاً من رموز المرجعية الرشيدة، وعلماً من أعلام الاسلام، يخفق على قمة الحوزات العلمية في كل مكان.

     

    عرف الإمام الخوئي (قده) بمنهج علمي متميز واسلوب خاص به في البحث والتدريس، ذلك انه كان يطرح في أبحاثه الفقهية والاصولية العليا موضوعاً، ويجمع كل ما قيل من الأدلة حوله، ثم يناقشها دليلاً دليلاً، وما أن يوشك الطالب على الوصول الى قناعة خاصة، حتى يعود الإمام فيقيم الادلة القطعية المتقنة على قوة بعض من تلك الادلة وقدرتها على الاستنباط، فيخرج بالنتيجة التي يرتضيها، وقد سلك معه الطالب مسالك بعيدة الغور في الاستدلال والبحث، كما هو شأنه في تأليفاته القيمة، ، ولذا فقد عُرف بعَلَم الاصول والمجدّد.

     

    ولا تقتصر أبحاثه وتحقيقاته على حقلي الاصول والفقه، فهو الفارس المجلّي في علم الرجال أو (الجرح والتعديل) وقد شيّد صرحاً علمياً قويماً لهذا العلم ومدخليته في استنباط المسائل الاسلامية، جمعها في كتابه الشهير "معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة"، كما بذل جهداً كبيراً في التفسير وعلوم القرآن وضعها في مقدمة تفسيره "البيان في تفسير القرآن"، وغيرها من الحقول العلمية.

     

    أستاذ المراجع والمجتهدين

    التف حول الإمام الخوئي، طيلة فترة تدريسه، اعداد كبيرة من طلبة العلوم الدينية والاساتذة اللامعين، كانوا ينتمون الى بلدان العالم المختلفة، فكان هناك طلاب من سوريا ولبنان والاحساء والقطيف والبحرين والكويت وايران والباكستان والهند وافغانستان ودول شرق آسيا وافريقيا مضافاً الى الطلبة العراقيين، حيث تتلمذ على يديه عدد كبير من أفاضل العلماء المنتشرين في المراكز والحوزات العلمية الدينية الشيعية في أنحاء العالم، والذين يعدون من أبرز المجتهدين من بعده. ولقد انعكس منهج المدرسة الفكرية الخاصة به في علوم الفقه والتفسير والفلسفة الاسلامية والبلاغة وأصول الفقه والحديث، على الكم الهائل من المراجع العظام الذين تخرجوا من بين يديه. ولعله ليس من المبالغة القول بانه لم يتسن لاي مرجع قبله أن يخرج هذا العدد الكبير من أفاضل المراجع والمجتهدين في العصر الحديث. ومن هؤلاء المراجع والمجتهدين الكبار الاحياء والاموات: المرحوم آية الله السيد علي البهشتي (العراق)، آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (العراق)، آية الله العظمى الشيخ محمد اسحاق الفياض (العراق)، المرحوم آية الله الشيخ ميرزا علي الفلسفي (ايران)، المرحوم آية الله العظمى السيد محمد الروحاني (ايران)، المرحوم آية الله العظمى الشيخ ميرزا جواد التبريزي (ايران)، المرحوم آية الله السيد محمد رضا الخلخالي (العراق)، آية الله الشيخ محمد آصف المحسني (افغانستان)، آية الله السيد علي السيد حسين مكي (سوريا)، آية الله العظمى السيد تقي القمي (ايران)، آية الله العظمى الشيخ حسين وحيد الخراساني (ايران)، المرحوم آية الله السيد محمد حسين فضل الله ( لبنان)، المرحوم آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين (لبنان)، آية الله الشهيد السيد علاء الدين بحر العلوم (العراق)، المرحوم آية الله الشيخ ميرزا علي الغروي (العراق)، المرحوم آية الله الشيخ ميرزا يوسف الايرواني (ايران)، المرحوم آية الله السيد محي الدين الغريفي (البحرين)، آية الله الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم (العراق)، آية الله العظمى  الشهيد السيد محمد باقر الصدر (العراق) والمرحوم آية الله العظمى السيد أبو القاسم كوكبي (ايران) وغيرهم كثير من السادة العلماء والمشايخ وأفاضل الأساتذة، ممن تتلمذ على الإمام مباشرة أو على تلامذته في جميع الحوزات العلمية الدينية المعروفة.

     

    وقد ترك آية الله العظمى الإمام الخوئي (قده) أبحاثاً قيّمة كثيرة في حقلي الفقه والاصول، وهي الدروس التي كان يلقيها سماحته خلال مدة تزيد على نصف قرن، على عدد كبير من أفاضل العلماء وأساتذة الحوزة العلمية الدينية في النجف الأشرف، من المجتهدين ذوي الاختصاص في الدراسات الدينية العليا، المعروفة بـ "البحث الخارج" فقد ابتدأ (رضوان الله تعالى عليه)، بتدريس بحث الخارج سنة ١٣٥٢ الى ١٤١٠هـ، من دون انقطاع وقد قررت ودوّنت نظرياته الجديدة، وآرائه العلمية القيّمة تلك، في تقريرات كثير من السادة والمشايخ العلماء من تلامذته الافاضل، والتي تعتبر اليوم من أمهات المصادر الفقهية والاصولية الحديثة للباحثين والعلماء، مما لا يستغني منها الاساتذة والطلاب معاً، وعليها يدور رحى البحوث والدروس في هذين الحقلين في جميع الحوزات الدينية المعروفة.

     

    ومن تلك البحوث التي عُرضت على سماحته وأجاز طبعها هي:

    ١. التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقرير الشيخ ميرزا علي الغروي، عشرة أجزاء (فقه)

    ٢. تحرير العروة الوثقى، تقرير الشيخ قربانعلي الكابلي، جزء واحد (فقه)

    ٣. دروس في فقه الشيعة، تقرير السيد محمد مهدي الخلخالي، أربعة أجزاء (فقه)

    ٤. محاضرات في اصول الفقه، تقرير الشيخ محمد اسحاق الفياض، خمسة أجزاء (أصول)

    ٥. المستند في شرح العروة الوثقى، تقرير الشيخ مرتضى البروجردي، عشرة أجزاء (فقه)

    ٦. الدرر الغوالي في فروع العلم الاجمالي، تقرير الشيخ رضا اللطفي، جزء واحد (أصول)

    ٧. مباني الاستنباط، تقرير السيد ابو القاسم الكوكبي، أربعة أجزاء (أصول)

    ٨. مصباح الفقاهة، تقرير الشيخ محمد علي التوحيدي، ثلاثة أجزاء (فقه)

    ٩. مصابيح الاصول، تقرير السيد علاء الدين بحر العلوم، جزء واحد (أصول)

    ١٠. المعتمد في شرح المناسك، تقرير السيد محمد رضا الخلخالي، خمسة أجزاء (فقه)

    ١١. مصباح الاصول، تقرير السيد محمد سرور البهسودي، جزءان (أصول)

    ١٢. مباني العروة الوثقى، تقرير السيد محمد تقي الخوئي، أربعة أجزاء (فقه)

    ١٣. دراسات في الاصول العملية، تقرير السيد علي الحسيني الشاهرودي، جزء واحد (أصول)

    ١٤. فقه العترة في زكاة الفطرة، تقرير السيد محمد تقي الجلالي، جزء واحد (فقه)

    ١٥. الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد، تقرير الشيخ غلام رضا عرفانيان، جزء واحد (فقه)

    ١٦. محاضرات في الفقه الجعفري، السيد علي الحسيني الشاهرودي، ثلاثة أجزاء (فقه)

    ١٧. جواهر الاصول، تقرير الشيخ فخر الدين الزنجاني، جزء واحد (أصول)

    ١٨. الأمر بين الأمرين، في مسألة الجبر والاختيار، تقرير الشيخ محمد تقي الجعفري، جزء واحد (أصول)

    ١٩. الرضاع، تقرير السيد محمد مهدي الخلخالي والشيخ محمد تقي الايرواني، جزء واحد (فقه)

     

    الخوئي: النشاط الإجتماعي

    لم تتوقف قضية الخدمة والاهتمام بالشؤون الاجتماعية عند الإمام الخوئي على مجموعة دون أخرى، أو بلد دون بلد بل كان للامة بحق بمثابة الاب المشفق على ابنائه والمرجع الاعلى لهم، ومثلاً لقيادة أهل البيت عليهم السلام، الذين هم خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله، الذي يصفه الله تعالى بقوله (بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وقد تجلت هذه المشاعر الابوية بشكل عملي واضح في كل يوم من ايام حياته الشريفة، وخصوصاً في المحن والشدائد التي حفل بها تاريخ هذه الامة المعاصر.

     

    كان الإمام الراحل يحمل بين جنبيه قلباً كبيراً يتحرق ويتآلم لمعاناة المسلمين، ولم يكتف بذلك بل قام بكل ما كان بوسعه لمساعدتهم عملياً، وتخفيف معاناتهم. وكان يتابع بنفسه اخبار المسلمين ويصرف وقتاً غير قليل من وقته الثمين، لمتابعة اهم الاخبار التي تتعلق بالاسلام والمسلمين. ولطالما كان يؤرق ويترك النوم جرّاء حادثة محزنة يُمنى بها المسلمون هنا أو هناك. ويمكن رصد خمسة محاور رئيسية توضح اهتمام ورعاية الإمام الراحل بشؤون الامة:

     

    فمن جهة، تجاوزت رعاية الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) للحوزات العلمية كل الحدود السابقة التي كانت مألوفة قبل مرجعيته العامة. فبعد أن كان الاهتمام منصباً على رعاية طلاب ومدرسي حوزة النجف الاشرف وقم المقدسة ومشهد المقدسة في خراسان، توسع اهتمام الإمام السيد الخوئي ليشمل الحوزات العلمية في كل المدن العراقية والايرانية بتوسع أكثر، بل شمل المدارس العلمية في باكستان والهند، ثم تايلند وبنغلاديش، ثم افريقيا، ثم اوروبا وامريكا. وهذا الامر بحد ذاته، يعد جديدا في عالم المرجعية الدينية.

     

    وعلى صعيد الرعاية المالية، لم تشهد الحوزات العلمية ازدهاراً معاشياً في عصورها المختلفة كالذي شهدته تحت رعاية الإمام الخوئي (رضوان الله تعالى عليه). ومن جانب التوسع الكمي والكيفي اللذين شهدتهما الحوزات العلمية تحت توجيهاته ورعايته، فيكفي ذكر انه أمر بانشاء عشرات المدارس العلمية التي أصبحت مراكز للتعليم والتعلم في بلاد كثيرة، نذكر بعضا منها في بلاد الهند وبنغلادش، كمدرسة صاحب الزمان في كهولنا ـ بنغلاديش، ومدرسة أهل البيت في هوغلي ـ البنغال الغربية، ومدرسة أمير المؤمنين التي تعد اليوم نموذجاً للحوزات العلمية في تلك البلاد، ومدرسة الإمام الباقر عليه السلام في بهيوندي، ومدرسة الإمام المهدي في علي پور، والمدرسة الايمانية في نبراس، والحوزة العلمية في حيدر آباد، بالاضافة الى كثير من المدارس المنتشرة في أنحاء البلاد الهندية التي انشئت بأمره، أو التي تم احياؤها بعد أن اضمحلت بسبب صروف الدهر.

     

    ولن ينسى أربعون مليون مسلم شيعي في الهند، أن الإمام الخوئي (رضوان الله تعالى عليه)، كان محيي الحوزات العلمية والمراكز الدينية وباعث النهضة الاسلامية الجديدة في ربوع تلك البلاد الواسعة. كذلك تأسست العشرات من المدارس العلمية وازدهرت عشرات أخرى غيرها في باكستان بفضل الاهتمام الكبير الذي اولاه هذا المرجع العظيم. وفي افريقيا انشئت بأمره وتحت رعايته مدارس علمية في بلدان عدة، خرجت وتخرج المبلغين الكثر الذين يرشدون الناس الى دين الحق.

     

    كذلك الحال في لبنان وسوريا وتركيا، فان رعاية سماحة الإمام الراحل عبر وكلائه قد أدت الى تطور كبير في وضع طلبة العلوم الدينية في تلك البلاد، مضافاً لما قدمه من خدمات جليلة وما أضفى على الحوزات العلمية الرئيسية ومدارسها ومكتباتها ووضع طلابها وأساتذتها كحوزة النجف الاشرف وحوزة قم المقدسة وحوزة المشهد الرضوي، بتوابعها المختلفة المتعددة، التي تعتبر اليوم أساس وقوام الحوزات الدينية للطائفة. وباختصار يمكن القول بأن الإمام الخوئي (رضوان الله تعالى عليه)، كان رائد النهضة العلمية الحديثة وراعيها في العالم الاسلامي الشيعي المعاصر من دون منازع.

     

    لقد كان الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) ينتظر لسنوات طويلة توفر الامكانات اللازمة لانشاء مشاريع كبيرة يستمر نفعها الى الاجيال القادمة وتتسع دائرة الاستفادة منها الى ابعد حد ممكن. كان ذلك ادراكاً منه بطبيعة ظروف هذا العصر، وضرورة انشاء المشاريع التي ترفع شأن المؤمنين وتوفر لهم مصدراً ومركزاً باقياً من مراكز النفع العام، فتوجه (رضوان الله تعالى عليه) الى انشاء مدينة متكاملة لطلاب العلم ومدرسي الحوزة العلمية في قم المقدسة وهي اليوم مدينة شامخة باسم "مدينة العلم" وهي غنية عن التعريف لشهرتها وذيوع صيتها في اوساط أهل العلم.

     

    كما أنشأ بأمره (رضوان الله تعالى عليه)، مدرسة علمية في مدينة مشهد المقدسة تعد أكبر مدرسة علمية حوزوية في العالم الشيعي أجمع، وهي عماد ومركز الحوزة في الوقت الحاضر. وفي لبنان كان مشروعه الكبير المعروف باسم "مبرة الإمام الخوئي" داراً للايتام، تضم اليوم أكثر من الف ومائتي يتيم ويتيمة، يعيشون منعمين بوسائل الراحة والرعاية، وقد شهدت بعض المنظمات الدولية المتخصصة، لهذه المبرة، بآنها من أفضل دور رعاية الايتام في منطقة الشرق الاوسط.

     

    ومضافا لما ذكر في الهند، فقد تفضل (رضوان الله تعالى عليه) بالامر بانشاء مجمع ثقافي ضخم قرب مدينة مومباي على مساحة من الارض تقارب المليون قدم مربع، يعد أكبر مشروع اسلامي شيعي في العالم على الاطلاق، يشمل مدارس وثانويات وكليات أكاديمية، ومدارس حوزوية، ومعاهد مهنية، ومستشفى كبيراً، ومسجداً ضخماً وتوابع كثيرة، تجعل من المشروع مدينة متكاملة. وهذا المشروع الثقافي الخيري الاسلامي العملاق لوحده كاف لبيان عظمة الإمام الراحل وسعة افقه وبعد نظره، وعلوّ همته. كما وقد أمر (رضوان الله تعالى عليه) بانشاء مشروع تعليمي ضخم آخر في مدينة اسلام آباد في باكستان.

     

    كما وأن مشروع المركز الاسلامي للامام الراحل مشهور في نيويورك، ومعه مدرسة للاطفال التي أصبحت محط آمال المؤمنين هناك، لانها السبيل الوحيد لانقاذ أبنائهم من الضياع في ذلك المجتمع الكبير.وهناك مشاريع كثيرة قام سماحته بدعمها مادياً ومعنوياً وتنتشر في أنحاء العالم كالمكتبات العامة والمشاريع المتعددة في العراق وباكستان والهند وتايلند وافريقيا وغيرها من البلاد.

     

    كما أن رعايته (رضوان الله تعالى عليه) للامة تجاوزت ذلك الحد وتعدته الى تشجيعه للرجال المخلصين أن ينظموا صفوف الامة وينضموا أعمالها ومشاريعها وخدماتها. فكان (رحمه الله تعالى)، يشجع كثيراً ويؤكد على تنظيم الامور في الاعمال الدينية والخيرية والاجتماعية. ولقد لقيت منه الجمعيات الشيعية المعروفة والنشيطة في مختلف البلدان كل الدعم والاسناد والتآييد، بل أجاز بعضها باستلام الحقوق الشرعية وصرف جزءاً منها في المشاريع النافعة للامة.

     

    كان الإمام الخوئي (رضوان الله تعالى عليه) سباقاً لاغاثة الملهوفين ونجدة المنكوبين في أية بقعة من بقاع الارض يسكنها اتباع آل البيت ويتوطن فيها التشيع، وليس أدل على ذلك موقفه الرائع لاغاثة المنكوبين في الزلزال الاخير الذي ضرب أجزاء من شمال ايران، حتى أسعفهم بمبلغ تجاوز المليون دولار أمريكي لاعادة الاعمار وبناء وتعمير المدارس والمنازل والمرافق العامة والقرى المتضررة. وكذلك  مساعدته الفورية لمنكوبي الخسف الذي أصاب گرگيل في كشمير في تلك السنوات، وكذلك مساعدته لضحايا الجفاف في الهند.

     

    كان حريصاً على أن يتابع الازمات والمحن التي يتعرض لها المؤمنون والمسلمون في انحاء الارض ويسعى بكل جهده لمساعدتهم. ففي ايام الحرب العراقية الايرانية قدم (رضوان الله تعالى عليه) لمنكوبي ومشردي الحرب كل انواع الرعاية والمساعدات الممكنة.  وكان في الوقت نفسه طوداً شامخاً امام الظالم الطاغية الذي حاول بكل وسائل الضغط والايذاء أن ينتزع منه ولو كلمة واحدة لصالح نظامه الجائر فلم يفلح، وانتصر الصبر الحسني والجهاد الراسخ للامام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) على ظلم الطاغية ودهائه، خصوصاً أن المعونات والخدمات كانت متواصلة في المدن التي على طرفي النزاع تقدم المساعدات وتقدم الخدمات للمتضررين المقهورين في ايران والعراق طوال ثمان سنوات من الحرب وبعدها.

     

    وكان موقفه (رضوان الله تعالى عليه) من محنة المسلمين في افغانستان واضحاً جلياً، فقد قدم كل انواع الدعم، حتى انه اجاز المؤمنين بدفع الحقوق الشرعية لتمويل عمليات الجهاد ضد الغزاة السوفييت. وكان (رضوان الله تعالى عليه) يرسل مبالغ كبيرة مباشرة لدعم جهاد المؤمنين الافغان ضد العدوان عليهم. وفي لبنان وفلسطين كان الإمام (رضوان الله تعالى عليه) يشجب باستمرار اعمال اعداء الاسلام، ويستنهض المسلمين لجمع صفوفهم في مواجهة عدوهم، وكان اضافة الى ذلك يرعى فقراء لبنان بتوزيع المواد الغذائية عليهم، ويدعم الوجود الاسلامي لهم بكل الوسائل الممكنة.

     

    كما كان للامام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) أروع المواقف في احتضان أبناء الكويت المشردين والمنكوبين، أثناء غزو الكويت من قبل النظام الجائر في العراق عام1991م ، فقد أمر وكلاءه في كافة البلاد التي تواجدوا فيها، لاحتضان أبناء الكويت المشردين من بلادهم، وبدفع مبالغ كافية لرعاية شؤونهم وعوائلهم، الى أن انجلت الازمة، وأصدر فتواه الشهيرة إبان الغزو الغاشم، بحرمة الاستفادة أو البيع والشراء من مسروقات الكويت، وهو يرزخ في العراق تحت سلطة النظام الجائر الذي لا يرحم.

     

    كذلك موقفه الخيّر في مساعدة المظلومين من المهجرين العراقيين قبل الانتفاضة الاخيرة وبعدها في الخارج، ورعاية أهليهم في الداخل، وغير ذلك من المواقف التي تثبت أنه كان (رضوان الله تعالى عليه)، كهفاً يلوذ به اللائذون ويلجأ اليه المؤمنون.

     

    لقد كان تأسيس مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية بأمر من سماحة الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه)  حين رأى ضرورة انشاء مثل هذه المؤسسة الخيرية العالمية، وذلك تجاوباً مع تغيير المرحلة ومتطلبات إرساء قواعد مؤسسات قوية قادرة على تقديم خدمات مستمرة للمؤمنين. فلقد كانت المرجعيات الدينية تبني بنيانها وترعاه، حتى اذا توفي المرجع توقف النمو وتراجع تدريجياً. بينما تقوم مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية بوضعها الشرعي والقانوني اليوم برعاية المشاريع الكبرى التي اسسها سماحة الإمام (رضوان الله تعالى عليه)، وهي مؤهلة للاستمرار لوقت طويل جداً أن شاء الله تعالى في خدمة المسلمين.